الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **
قال ابن إسحاق: فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين واجتمع كبائر الأنصار استحكم أمر الإسلام، فقامت الصلاة وفرضت الزكاة والصيام، وقامت الحدود وفرض الحلال والحرام وتبوأ الإسلام بين أظهرهم وكان هذا الحي من الأنصار هم الذين تبوؤا الدار والإيمان. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل بوقاً كبوق يهود الذي يدعون به لصلاتهم، ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس فنحت ليضرب به المسلمين للصلاة، فبينا هم على ذلك رأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه أخو بلحارث بن الخزرج، النداء، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: إنه طاف بي هذه الليلة طائف، مرَّ بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوساً في يده، فقلت: يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس ؟ فقال: وما تصنع به؟ قال: قلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: ألا أدلك على خير من ذلك؟ قلت: وما هو؟ قال: تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله. فلما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فالقها عليه، فليؤذن بها فإنه أندى صوتاً منك)). فلما أذن بها بلال سمعه عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه وهو يقول: يا نبي الله والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلله الحمد على ذلك)). قال ابن إسحاق: فحدثني بهذا الحديث محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه، عن أبيه. وقد روى هذا الحديث أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة من طرق عن محمد بن إسحاق به، وصححه الترمذي وابن خزيمة وغيرهما. (ج/ص: 3/285) وعند أبي داود أنه علَّمه الإقامة قال: ثم تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. وقد روى ابن ماجه هذا الحديث: عن أبي عبيد محمد بن عبيد بن ميمون، عن محمد بن سلمة الحراني، عن ابن إسحاق كما تقدم. ثم قال: قال أبو عبيد: وأخبرني أبو بكر الحكمي أن عبد الله بن زيد الأنصاري قال في ذلك: الحمد لله ذي الجلال وذي الإ * كرام حمداً على الأذان كبيرا إذ أتاني به البشير من اللـ * ـه فأكرم به لدي بشيرا في ليال والى بهن ثلاث * كلما جاء زادني توقيرا قلت: وهذا الشعر غريب وهو يقتضي أنه رأى ذلك ثلاث ليال حتى أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله أعلم. ورواه الإمام أحمد من حديث محمد بن إسحاق قال: وذكر الزهري عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن زيد به نحو رواية ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي ولم يذكر الشعر. وقال ابن ماجه: حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي، ثنا أبي عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار الناس لما يهمهم من الصلاة، فذكروا البوق فكرهه من أجل اليهود، ثم ذكروا الناقوس فكرهه من أجل النصارى. فأري النداء تلك الليل رجل من الأنصار يقال له عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب، فطرق الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأذن به. قال الزهري: وزاد بلال في نداء صلاة الغداة، الصلاة خير من النوم مرتين، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: يا رسول الله رأيت مثل الذي رأى ولكنه سبقني، وسيأتي تحرير هذا الفصل في باب الأذان من كتاب (الأحكام الكبير) إن شاء الله تعالى وبه الثقة. فأما الحديث الذي أورده السهيلي بسنده من طريق البزار: حدثنا محمد بن عثمان بن مخلد، ثنا أبي عن زياد بن المنذر، عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب فذكر حديث الإسراء. وفيه: فخرج ملك من وراء الحجاب فأذن بهذا الأذان وكلما قال كلمة صدقه الله تعالى، ثم أخذ الملك بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقدمه فأمَّ بأهل السماء وفيهم آدم ونوح. ثم قال السهيلي: وأخلق بهذا الحديث أن يكون صحيحاً لما يعضده ويشاكله من حديث الإسراء. فهذا الحديث ليس كما زعم السهيلي أنه صحيح بل هو منكر تفرد به زياد بن المنذر أبو الجارود الذي تنسب إليه الفرقة الجارودية وهو من المتهمين، ثم لو كان هذا قد سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء لأوشك أن يأمر به بعد الهجرة في الدعوة إلى الصلاة والله أعلم. (ج/ص: 3/286) قال ابن هشام: وذكر ابن جريج قال: قال لي عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: ائتمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالناقوس للاجتماع للصلاة، فبينا عمر بن الخطاب يريد أن يشتري خشبتين للناقوس إذ رأى عمر في المنام: لا تجعلوا الناقوس بل أذنوا للصلاة. فذهب عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بما رأى وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بذلك فما راع عمر إلا بلال يؤذن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره بذلك: ((قد سبقك بذلك الوحي)). وهذا يدل على أنه قد جاء الوحي بتقرير ما رآه عبد الله بن زيد بن عبد ربه كما صرح به بعضهم والله تعالى أعلم. قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن امرأة من بني النجار قالت: كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، فكان بلال يؤذن عليه للفجر كل غداة، فيأتي بسحر، فيجلس على البيت ينتظر الفجر، فإذا رآه تمطى، ثم قال: اللهم أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك. قالت: ثم يؤذن، قالت: والله ما علمته كان تركها ليلة واحدة - يعني: هذه الكلمات - ورواه أبو داود من حديثه منفرداً به. قال ابن جرير: وزعم الواقدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد في هذه السنة في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مهاجره لحمزة بن عبد المطلب لواء أبيض في ثلاثين رجلاً من المهاجرين ليعترض لعيرات قريش، وأن حمزة لقي أبا جهل في ثلاثمائة رجل من قريش فحجز بينهم مجدي بن عمرو ولم يكن بينهم قتال. قال: وكان الذي يحمل لواء حمزة أبو مرثد الغنوي. (ج/ص: 3 /287) قال ابن جرير: وزعم الواقدي أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد في هذه السنة على رأس ثمانية أشهر في شوال لعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف لواء أبيض وأمره بالمسير إلى بطن رابغ. وكان لواؤه مع مسطح بن أثاثة فبلغ ثنية المرة وهي بناحية الجحفة في ستين من المهاجرين ليس فيهم أنصاري، وأنهم التقوا هم والمشركون على ماء يقال له: أحياء وكان بينهم الرمي دون المسابقة. فقال الواقدي: وكان المشركون مائتين عليهم أبو سفيان صخر بن حرب وهو المثبت عندنا. وقيل: كان عليهم مكرز بن حفص. قال الواقدي: وفيها - يعني: في السنة الأولى في ذي القعدة - عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص إلى الخرار لواء أبيض يحمله المقداد بن الأسود. فحدثني أبو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن عامر بن سعد، عن أبيه. قال: خرجت في عشرين رجلاً على أقدامنا، أو قال: أحد وعشرين رجلاً، فكنا نكمن النهار ونسير الليل حتى صبحنا الخرار صبح خامسة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلي أن لا أجاوز الخرار، وكانت العير قد سبقتني قبل ذلك بيوم. (ج/ص: 3 /288) قال الواقدي: كانت العير ستين وكان من مع سعد كلهم من المهاجرين. قال أبو جعفر بن جرير (رح) وعند ابن إسحاق (رح) أن هذه السرايا الثلاث التي ذكرها الواقدي كلها في السنة الثانية من الهجرة من وقت التاريخ. قلت: كلام ابن إسحاق ليس بصريح فيما قاله أبو جعفر (رح) لمن تأمله كما سنورده في أول كتاب (المغازي) في أول السنة الثانية من الهجرة وذلك تلوماً نحن فيه إن شاء الله، ويحتمل أن يكون مراده أنها وقعت هذه السرايا في السنة الأولى، وسنزيدها بسطاً وشرحاً إذا انتهينا إليها إن شاء الله تعالى. والواقدي (رح) عنده زيادات حسنة، وتاريخ محرر غالباً فإنه من أئمة هذا الشأن الكبار، وهو صدوق في نفسه مكثار كما بسطنا القول في عدالته وجرحه في كتابنا (الموسوم بالتكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل) ولله الحمد والمنة. وممن ولد في هذه السنة المباركة - وهي: الأولى من الهجرة - عبد الله بن الزبير فكان أول مولود ولد في الإسلام بعد الهجرة كما رواه البخاري عن أمه أسماء وخالته عائشة أم المؤمنين ابنتي الصديق رضي الله عنهما. ومن الناس من يقول: ولد النعمان بن بشير قبله بستة أشهر، فعلى هذا يكون ابن الزبير أول مولود ولد بعد الهجرة من المهاجرين، ومن الناس من يقول: إنهما ولدا في السنة الثانية من الهجرة والظاهر الأول كما قدمنا بيانه ولله الحمد والمنة، وسنشير في آخر السنة الثانية إلى القول الثاني إن شاء الله تعالى. قال ابن جرير: وقد قيل: إن المختار بن أبي عبيد وزياد بن سمية ولدا في هذه السنة الأولى فالله أعلم. كلثوم بن الهدم الأوسي الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسكنه بقباء إلى حين ارتحل منها إلى دار بني النجار كما تقدم. وبعده - فيها - أبو أمامة أسعد بن زرارة نقيب بني النجار توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبني المسجد كما تقدم رضي الله عنهما وأرضاهما. قال ابن جرير: وفي هذه السنة - يعني: الأولى من الهجرة - مات أبو أحيحة بماله بالطائف، ومات الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي فيها بمكة. قلت: وهؤلاء ماتوا على شركهم لم يسلموا لله عز وجل. (ج/ص: 3 /289) وقع فيها كثير من المغازي والسرايا ومن أعظمها وأجلها بدر الكبرى التي كانت في رمضان منها، وقد فرق الله بها بين الحق والباطل، والهدى والغي، وهذا أوان ذكر المغازي والبعوث فنقول وبالله المستعان قال الإمام محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب (السيرة) بعد ذكر أحبار اليهود ونصبهم العداوة للإسلام وأهله وما نزل فيهم من الآيات: فمنهم حيي بن أخطب وأخواه أبو ياسر وجدي، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وسلام بن أبي الحقيق وهو أبو رافع الأعور، تاجر أهل الحجاز وهو الذي قتله الصحابة بأرض خيبر كما سيأتي، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وعمرو بن جحاش، وكعب بن الأشرف وهو من طيء. ثم أحد بني نبهان وأمه من بني النضير، وقد قتله الصحابة قبل أبى رافع كما سيأتي، وحليفاه الحجاج بن عمرو، وكردم بن قيسم لعنهم الله فهؤلاء من بني النضير، ومن بني ثعلبة بن الفطيون عبد الله بن صوريا، ولم يكن بالحجاز - بعد - أعلم بالتوراة منه. قلت: وقد قيل: أنه أسلم، وابن صلوبا ومخيريق وقد أسلما يوم أحد كما سيأتي، وكان حبر قومه. ومن بني قينقاع: زيد بن اللصيت، وسعد بن حنيف، ومحمود بن شيخان، وعزيز بن أبي عزيز، وعبد الله بن ضيف، وسويد بن الحارث، ورفاعة بن قيس، وفنحاص وأشيع ونعمان بن أضا، وبحرى بن عمرو، وشاش بن عدي، وشاش بن قيس، وزيد بن الحارث، ونعمان بن عمير، وسكين بن أبي سكين، وعدي بن زيد، ونعمان بن أبي أوفى أبو أنس.(ج/ص:3 /290) ومحمود بن دحية، ومالك بن صيف، وكعب بن راشد، وعازر ورافع بن أبي رافع، وخالد وأزار بن أبي أزار. قال ابن هشام: ويقال: آزر بن أبي آزر، ورافع بن حارثة، ورافع بن حريملة، ورافع بن خارجة، ومالك بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت، وعبد الله بن سلام. قلت: وقد تقدم إسلامه رضي الله عنه. قال ابن إسحاق: وكان حبرهم وأعلمهم، وكان اسمه الحصين فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله. قال ابن إسحاق: ومن بني قريظة: الزبير بن باطا بن وهب، وعزال بن شموال، وكعب بن أسد وهو صاحب عقدهم الذي نقضوه عام الأحزاب، وشمويل بن زيد، وجبل بن عمرو بن سكينة، والنحام بن زيد، وكردم بن كعب، ووهب بن زيد، ونافع بن أبي نافع، وأبو نافع، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، وكردم بن زيد، وأسامة بن حبيب، ورافع بن زميلة، وجبل بن أبي قشير، ووهب بن يهوذا. قال: ومن بني زريق: لبيد بن أعصم وهو الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن يهود بني حارثة: كنانة بن صوريا. ومن يهود بني عمرو بن عوف: قردم بن عمرو. ومن يهود بني النجار: سلسلة بن برهام. قال ابن إسحاق: فهؤلاء أحبار يهود وأهل الشرور والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، وأصحاب المسألة الذين يكثرون الأسئلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه التعنت والعناد والكفر، قال: وأصحاب النصب لأمر الإسلام ليطفئوه إلا ما كان من عبد الله بن سلام ومخيريق. ثم ذكر إسلام عبد الله بن سلام وإسلام عمته خالدة بنت الحارث كما قدمناه، وذكر إسلام مخيريق يوم أحد كما سيأتي وأنه قال لقومه - وكان يوم السبت -: يا معشر يهود والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم. (ج/ص: 3 /291) ثم أخذ سلاحه وخرج وعهد إلى من وراءه من قومه إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد يرى فيها ما أراه الله - وكان كثير الأموال - ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه. قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما بلغني: ((مخيريق خير يهود)). ثم ذكر ابن إسحاق من مال إلى هؤلاء الأضداد من اليهود من المنافقين من الأوس والخزرج فمن الأوس: زوى بن الحارث، وجلاس بن سويد بن الصامت الأنصاري، وفيه نزل: قال: وقد زعموا أنه تاب وحسنت توبته حتى عرف منه الإسلام والخير. قال: وأخوه الحارث بن سويد، وهو الذي قتل المجذر بن ذياد البلوي، وقيس بن زيد أحد بني ضبيعة يوم أحد، خرج مع المسلمين وكان منافقاً فلما التقى الناس عدا عليهما فقتلهما ثم لحق بقريش. قال ابن هشام: وكان المجذر قد قتل أباه سويد بن الصامت في بعض حروب الجاهلية فأخذ بثأر أبيه منه يوم أحد، كذا قال ابن هشام. وقد ذكر ابن إسحاق أن الذي قتل سويد بن الصامت إنما هو معاذ بن عفراء قتله في غير حرب قبل يوم بعاث رماه بسهم فقتله. وأنكر ابن هشام أن يكون الحارث قتل قيس بن زيد، قال: لأن ابن إسحاق لم يذكره في قتلى أحد. قال ابن إسحاق: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر عمر بن الخطاب بقتله إن هو ظفر به، فبعث الحارث إلى أخيه الجلاس يطلب له التوبة ليرجع إلى قومه، فأنزل الله - فيما بلغني عن ابن عباس -: قال: وبجاد بن عثمان بن عامر، ونبتل بن الحارث وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب أن ينظر إلى شيطان فلينظر إلى هذا)). وكان جسيماً أدلم ثائر شعر الرأس أحمر العينين أسفع الخدين، وكان يسمع الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينقله إلى المنافقين وهو الذي قال: إنما محمد أذن، من حدثه بشيء صدقه. (ج/ص: 3 /292) فأنزل الله فيه: قال: وأبو حبيبة بن الأزعر وكان ممن بنى مسجد الضرار، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وهما اللذان عاهدا الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ثم نكثا، فنزل فيهما ذلك، ومعتب هو الذي قال يوم أحد: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا فنزل فيه الآية. وهو الذي قال يوم الأحزاب: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يؤمن أن يذهب إلى الغائط فنزل فيه: قال ابن إسحاق: والحارث بن حاطب. قال ابن هشام: ومعتب بن قشير، وثعلبة والحارث ابنا حاطب، وهما من بني أمية بن زيد من أهل بدر وليسوا من المنافقين فيما ذكر لي من أثق به من أهل العلم. قال: وقد ذكر ابن إسحاق: ثعلبة والحارث في بني أمية بن زيد في أسماء أهل بدر. قال ابن إسحاق: وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف وبخرج، وكان ممن بني مسجد الضرار وعمرو بن حرام وعبد الله بن نبتل، وجارية بن عامر بن العطاف، وابناه يزيد ومجمع ابنا جارية وهم ممن اتخذ مسجد الضرار، وكان مجمع غلاماً حدثاً قد جمع أكثر القرآن وكان يصلي بهم فيه، فلما خرب مسجد الضرار - كما سيأتي بيانه بعد غزوة تبوك - وكان في أيام عمر سأل أهل قباء عمر أن يصلي بهم مجمع فقال: لا والله، أو ليس أمام المنافقين في مسجد الضرار ؟ فحلف بالله ما علمت بشيء من أمرهم فزعموا: أن عمر تركه فصلى بهم. قال: ووديعة بن ثابت وكان ممن بنى مسجد الضرار وهو الذي قال: إنما كنا نخوض ونلعب فنزل فيه ذلك. قال: وخذام بن خالد وهو الذي أخرج مسجد الضرار من داره. قال ابن هشام مستدركاً على ابن إسحاق في منافقي بني النبيت من الأوس وبشر ورافع ابنا زيد. قال ابن إسحاق: ومربع بن قيظي - وكان أعمى - وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجاز في حائطه وهو ذاهب إلى أحد: لا أحل لك إن كنت نبياً أن تمر في حائطي وأخذ في يده حفنة من تراب ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك لرميتك بها، فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر)). (ج/ص: 3 /293) وقد ضربه سعد بن زيد الأشهلي بالقوس فشجه. قال: وأخوه أوس بن قيظي وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق: إن بيوتنا عورة. قال الله: قال: وحاطب بن أمية بن رافع وكان شيخاً جسيماً قد عسا في جاهليته، وكان له ابن من خيار المسلمين يقال له: يزيد بن حاطب أصيب يوم أحد حتى أثبتته الجراحات، فحمل إلى دار بني ظفر. فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: فإنه اجتمع إليه من بها من رجال المسلمين ونسائهم وهو يموت فجعلوا يقولون: أبشر بالجنة يا ابن حاطب. قال: فنجم نفاق أبيه فجعل يقول: أجل جنة من حرمل، غررتم والله هذا المسكين من نفسه. قال: وبشير بن أبيرق أبو طعمة سارق الدرعين الذي أنزل الله فيه: قال: وقزمان حليف لبني ظفر الذي قتل يوم أحد سبعة نفر، ثم لما آلمته الجراحة قتل نفسه وقال: والله ما قاتلت إلا حمية على قومي ثم مات لعنه الله. قال ابن إسحاق: لم يكن في بني عبد الأشهل منافق ولا منافقة يعلم إلا أن الضحاك بن ثابت كان يتهم بالنفاق وحب يهود فهؤلاء كلهم من الأوس. قال ابن إسحاق: ومن الخزرج: رافع بن وديعة، وزيد بن عمرو، وعمرو بن قيس، وقيس بن عمرو بن سهل، والجد بن قيس وهو الذي قال: يا محمد ائذن لي ولا تفتني. وعبد الله بن أبي بن سلول، وكان رأس المنافقين ورئيس الخزرج والأوس أيضاً، كانوا قد أجمعوا على أن يملكوه عليهم في الجاهلية، فلما هداهم الله للإسلام قبل ذلك شرق اللعين بريقه وغاظه ذلك جداً، وهو الذي قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وقد نزلت فيه آيات كثيرة جداً. وفيه وفي وديعة - رجل من بني عوف - ومالك بن أبي قوقل، وسويد وداعس، وهم من رهطه نزل قوله تعالى: ثم ذكر ابن إسحاق من أسلم من أحبار اليهود على سبيل التقية فكانوا كفاراً في الباطن فأتبعهم بصنف المنافقين وهم من شرهم. سعد بن حنيف، وزيد بن اللصيت، وهو الذي قال حين ضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها فهي في هذا الشعب قد حبستها شجرة بزمامها)). فذهب رجال من المسلمين فوجدوها كذلك. قال: ونعمان بن أوفى، وعثمان بن أوفى، ورافع بن حريملة، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات - فيما بلغنا -: ((قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين)). ورفاعة بن زيد بن التابوت: وهو الذي هبت الريح الشديدة يوم موته عند مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك فقال: ((إنها هبت لموت عظيم من عظماء الكفار)). فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة قد مات في ذلك اليوم، وسلسلة بن برهام، وكنانة بن صوريا، فهؤلاء ممن أسلم من منافقي اليهود قال: فكان هؤلاء المنافقون يحضرون المسجد ويسمعون أحاديث المسلمين ويسخرون ويستهزئون بدينهم فاجتمع في المسجد يوماً منهم أناس فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون بينهم خافضي أصواتهم قد لصق بعضهم إلى بعض، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجوا من المسجد إخراجاً عنيفاً، فقام أبو أيوب إلى عمرو بن قيس أحد بني النجار - وكان صاحب آلهتهم في الجاهلية - فأخذ برجله فسحبه حتى أخرجه وهو يقول - لعنه الله -: أتخرجني يا أبا أيوب من مربد بني ثعلبة؟ ثم أقبل أبو أيوب إلى رافع بن وديعة النجاري فلببه بردائه، ثم نتره نتراً شديداً ولطم وجهه فأخرجه من المسجد وهو يقول: أف لك منافقاً خبيثاً. وقام عمارة بن حزم إلى زيد بن عمرو - وكان طويل اللحية - فأخذ بلحيته وقاده بها قوداً عنيفاً حتى أخرجه من المسجد، ثم جمع عمارة يديه جميعاً فلدمه بهما لدمة في صدره خر منها قال: يقول: خدشتني يا عمارة، فقال عمارة: أبعدك الله يا منافق فما أعد الله لك من العذاب أشد من ذلك، فلا تقربن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقام أبو محمد مسعود بن أوس بن زيد بن أصرم بن زيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار - وكان بدرياً - إلى قيس بن عمرو بن سهل وكان شاباً - وليس في المنافقين شاب سواه - فجعل يدفع في قفاه حتى أخرجه. (ج/ص: 3 /295) وقام رجل من بني خدرة إلى رجل يقال له: الحارث بن عمرو - وكان ذا جمة - فأخذ بجمته فسحبه بها سحباً عنيفاً على ما مرَّ به من الأرض حتى أخرجه، فجعل يقول المنافق: قد أغلظت يا أبا الحارث. فقال: إنك أهل لذلك أي عدو الله لما أنزل فيك، فلا تقربن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك نجس، وقام رجل من بني عمرو بن عوف إلى أخيه زوى بن الحارث فأخرجه إخراجاً عنيفاً وأفف منه، وقال: غلب عليك الشيطان وأمره. ثم ذكر ابن إسحاق ما نزل فيهم من الآيات من سورة البقرة ومن سورة التوبة، وتكلم على تفسير ذلك فأجاد وأفاد رحمه الله. وهو بعث حمزة بن عبد المطلب أبو عبيدة بن الحارث كما سيأتي في المغازي. قال البخاري: (كتاب المغازي). قال ابن إسحاق: أول ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأبواء، ثم بواط، ثم العشيرة، ثم روى عن زيد بن أرقم أنه سئل: كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: تسع عشرة شهد منها سبع عشرة أولهن العسيرة - أو العشيرة -. وسيأتي الحديث بإسناده ولفظه والكلام عليه عند غزوة العشيرة إن شاء الله وبه الثقة. وفي (صحيح البخاري) عن بريدة قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة، ولمسلم عنه: أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة. وفي رواية له عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة وقاتل في ثماني منهن. وقال الحسين بن واقد: عن ابن بريدة، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا سبع عشرة غزوة وقاتل في ثمان: يوم بدر، وأحد، والأحزاب، والمريسيع، وقديد، وخيبر، ومكة، وحنين. وبعث أربعاً وعشرين سرية. وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا محمد بن عثمان الدمشقي التنوخي، ثنا الهيثم بن حميد، أخبرني النعمان، عن مكحول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا ثمانية عشر غزوة، قاتل في ثمان غزوات، أولهن بدر، ثم أحد، ثم الأحزاب، ثم قريظة، ثم بئر معونة، ثم غزوة بني المصطلق من خزاعة، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة مكة، ثم حنين والطائف. قوله: بئر معونة بعد قريظة فيه نظر، والصحيح: أنها بعد أحد كما سيأتي. قال يعقوب: حدثنا سلمة بن شبيب، ثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، سمعت سعيد بن المسيب يقول: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة غزوة، وسمعته مرة أخرى يقول: أربعاً وعشرين، فلا أدري أكان ذلك وهماً أو شيئاً سمعه بعد ذلك. (ج/ص: 3 /296) وقد روى الطبراني، عن الدبري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً وعشرين غزوة. وقال عبد الرحمن بن حميد في (مسنده): حدثنا سعيد بن سلام، ثنا زكريا بن إسحاق، حدثنا أبو الزبير، عن جابر. قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين غزوة. وقد روى الحاكم من طريق هشام، عن قتادة: أن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه كانت ثلاثاً وأربعين. ثم قال الحاكم: لعله أراد السرايا دون الغزوات فقد ذكرت في (الإكليل) على الترتيب بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه زيادة على المائة. قال: وأخبرني الثقة من أصحابنا ببخارى: أنه قرأ في كتاب أبي عبد الله ابن نصر السرايا والبعوث دون الحروب نيفاً وسبعين، وهذا الذي ذكره الحاكم غريب جداً، وحمله كلام قتادة على ما قال فيه نظر. وقد روى الإمام أحمد، عن أزهر بن القاسم الراسبي، عن هشام الدستوائي، عن قتادة: أن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه ثلاث وأربعون، أربع وعشرون بعثاً وتسع عشرة غزوة. خرج في ثمان منها بنفسه: بدر، وأحد، والأحزاب، والمريسيع، وخيبر، وفتح مكة وحنين. وقال موسى بن عقبة: عن الزهري: هذه مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قاتل فيها، يوم بدر في رمضان سنة ثنتين، ثم قاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث، ثم قاتل يوم الخندق - وهو يوم الأحزاب وبني قريظة - في شوال من سنة أربع، ثم قاتل بني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس، ثم قاتل يوم خيبر سنة ست، ثم قاتل يوم الفتح في رمضان سنة ثمان، ثم قاتل يوم حنين وحاصر أهل الطائف في شوال سنة ثمان. ثم حج أبو بكر سنة تسع، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة عشر، وغزا اثنتي عشرة غزوة ولم يكن فيها قتال، وكانت أول غزاة غزاها الأبواء. (ج/ص: 3 /297) وقال حنبل بن هلال: عن إسحاق بن العلاء، عن عبد الله بن جعفر الرقي، عن مطرف بن مازن اليماني، عن معمر، عن الزهري قال: أول آية نزلت في القتال: ثم قاتل يوم الخندق في شوال سنة أربع، ثم قاتل بني لحيان في شعبان سنة خمس، ثم قاتل يوم خيبر سنة ست، ثم قاتل يوم الفتح في شعبان سنة ثمان، وكانت حنين في رمضان سنة ثمان. وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة غزوة لم يقاتل فيها، فكانت أول غزوة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأبواء، ثم العشيرة، ثم غزوة غطفان، ثم غزوة بني سليم، ثم غزوة الأبواء، ثم غزوة بدر الأولى، ثم غزوة الطائف، ثم غزوة الحديبية، ثم غزوة الصفراء، ثم غزوة تبوك آخر غزوة. ثم ذكر البعوث، هكذا كتبته من تاريخ الحافظ ابن عساكر وهو غريب جداً، والصواب ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله مرتباً. وهذا الفن مما ينبغي الاعتناء به والاعتبار بأمره والتهيؤ له كما رواه محمد بن عمر الواقدي، عن عبد الله بن عمر بن علي، عن أبيه، سمعت علي بن الحسين يقول: كنا نعلم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن. قال الواقدي: وسمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت عمي الزهري يقول في علم المغازي: علم الآخرة والدنيا. وقال محمد بن إسحاق (رح) في (المغازي) بعد ذكره ما تقدم مما سقناه عنه من تعيين رؤس الكفر من اليهود والمنافقين لعنهم الله أجمعين وجمعهم في أسفل سافلين. ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيأ لحربه وقام فيما أمره الله به من جهاد عدوه وقتال من أمره به ممن يليه من المشركين. قال: وقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل لثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ ابن ثلاث وخمسين سنة، وذلك بعد أن بعثه الله بثلاث عشرة سنة، فأقام بقية شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر وجمادين ورجباً وشعبان وشهر رمضان وشوالاً وذا القعدة وذا الحجة، وولي تلك الحجة المشركون. والمحرم، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً في صفر على رأس اثني عشر شهراً من مقدمه المدينة. (ج/ص: 3 /298) قال ابن هشام: واستعمل على المدينة سعد بن عبادة. قال ابن إسحاق: حتى بلغ ودان وهي غزوة الأبواء. قال ابن جرير: ويقال لها: غزوة ودان أيضاً، يريد قريشاً وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فوادعته فيها بنو ضمرة وكان الذي وادعه منهم مخشى بن عمرو الضمري، وكان سيدهم في زمانه ذلك. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيداً فأقام بها بقية صفر وصدراً من شهر ربيع الأول. قال ابن هشام: وهي أول غزوة غزاها عليه السلام. قال الواقدي: وكان لواؤه مع عمه حمزة، وكان أبيض. قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقامه ذلك بالمدينة عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي في ستين - أو ثمانين - راكباً من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، فسار حتى بلغ ماءً بالحجاز بأسفل ثنية المرة فلقي بها جمعاً عظيماً من قريش، فلم يكن بينهم قتال إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذٍ بسهم، فكان أول سهم رمي به في سبيل الله في الإسلام ثم انصرف القوم عن القوم، وللمسلمين حامية. وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة، وعتبة بن غزوان بن جابر المازني حليف بني نوفل بن عبد مناف، وكانا مسلمين ولكنهما خرجا ليتوصلا بالكفار. قال ابن إسحاق: وكان على المشركين يومئذٍ عكرمة بن أبي جهل. وروى ابن هشام، عن أبي عمرو بن العلاء، عن أبي عمرو المدني أنه قال: كان عليهم مكرز بن حفص. قلت: وقد تقدم عن حكاية الواقدي قولان: أحدهما: أنه مكرز. والثاني: أنه أبو سفيان صخر بن حرب، وأنه رجح أنه أبو سفيان فالله أعلم. ثم ذكر ابن إسحاق القصيدة المنسوبة إلى أبي بكر الصديق في هذه السرية التي أولها: (ج/ص: 3 /299) أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث * أرقت وأمر في العشيرة حادث ترى من لؤي فرقة لا يصدها * عن الكفر تذكير ولا بعث باعث رسول أتاهم صادق فتكذبوا * عليه وقالوا لست فينا بماكث إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا * وهروا هرير المحجرات اللواهث القصيدة إلى آخرها، وذكر جواب عبد الله بن الزبعري في مناقضتها التي أولها: أمن رسم دار أقفرت بالعثاعث * بكيت بعين دمعها غير لابث ومن عجيب الأيام - والدهر كله * له عجب - من سابقات وحادث لجيش أتانا ذي عرام يقوده * عبيدة يدعى في الهياج ابن حارث لنترك أصناما بمكة عكفا * مواريث موروث كريم لوارث وذكر تمام القصيدة وما منعنا من إيرادها بتمامها إلا أن الإمام عبد الملك بن هشام (رح) وكان إماماً في اللغة ذكر أن أكثر أهل العلم بالشعر ينكر هاتين القصيدتين. قال ابن إسحاق: وقال سعد بن أبي وقاص في رميته تلك فيما يذكرون: ألا هل أتى رسول الله أني * حميت صحابتي بصدور نبلي أذود بها أوائلهم ذياداً * بكل حزونة وبكل سهل فما يعتد رام في عدو * بسهم يا رسول الله قبلي وذلك أن دينك دين صدق * وذو حق أتيت به وفضل ينجى المؤمنون به ويخزى * به الكفار عند مقام مهل فمهلاً قد غويت فلا تعبني * غوي الحي ويحك يا ابن جهل قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لسعد. قال ابن إسحاق: فكانت راية عبيدة - فيما بلغنا - أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام لأحد من المسلمين. وقد خالفه الزهري وموسى بن عقبة والواقدي فذهبوا إلى أن بعث حمزة قبل بعث عبيدة بن الحارث والله أعلم. وسيأتي في حديث سعد بن أبي وقاص: أن أول أمراء السرايا عبد الله بن جحش الأسدي. (ج/ص: 3 /300) قال ابن إسحاق: وبعض العلماء يزعم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه حين أقبل من غزوة الأبواء قبل أن يصل إلى المدينة وهكذا حكى موسى بن عقبة عن الزهري. قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقامه ذلك حمزة بن عبد المطلب بن هاشم إلى سيف البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكباً من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني وكان موادعاً للفريقين جميعاً فانصرف، بعض القوم عن بعض ولم يكن بينهم قتال. قال ابن إسحاق: وبعض الناس يقول: كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين، وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معاً فشبِه ذلك على الناس. قلت: وقد حكى موسى بن عقبة عن الزهري أن بعث حمزة قبل عبيدة بن الحارث، ونص على أن بعث حمزة كان قبل غزوة الأبواء. فلما قفل عليه السلام من الأبواء بعث عبيدة بن الحارث في ستين من المهاجرين، وذكر نحو ما تقدم. وقد تقدم عن الواقدي أنه قال: كانت سرية حمزة في رمضان من السنة الأولى، وبعدها سرية عبيدة في شوال منها والله أعلم. وقد أورد ابن إسحاق عن حمزة رضي الله عنه شعراً يدل على أن رايته أول راية عقدت في الإسلام، لكن قال ابن إسحاق: فإن كان حمزة قال ذلك فهو كما قال، لم يكن يقول إلا حقاً، والله أعلم أي ذلك كان. فأما ما سمعنا من أهل العلم عندنا فعبيدة أول. والقصيدة هي قوله: ألا يالقومي للتحلم والجهل * وللنقض من رأي الرجال وللعقل وللراكبينا بالمظالم لم نطأ * لهم حرمات من سوام ولا أهل كأنا بتلناهم ولا بتل عندنا * لهم غير أمر بالعفاف وبالعدل (ج/ص: 3/301) وأمر بإسلام فلا يقبلونه * وينزل منهم مثل منزلة الهزل فما برحوا حتى انتدبت لغارة * لهم حيث حلوا أبتغي راحة الفضل بأمر رسول الله أول خافق * عليه لواء لم يكن لاح من قبل لواء لديه النصر من ذي كرامة * إله عزيز فعله أفضل الفعل عشية ساروا حاشدين وكلنا * مراجله من غيظ أصحابه تغلي فلما تراءينا أناخوا فعقلوا * مطايا وعقلنا مدى غرض النبل وقلنا لهم حبل الإله نصيرنا * وما لكم إلا الضلالة من حبل فثار أبو جهل هنالك باغياً * فخاب ورد الله كيد أبي جهل وما نحن إلا في ثلاثين راكباً * وهم مائتان بعد واحدة فضل فيال لؤي لا تطيعوا غواتكم * وفيؤا إلى الإسلام والمنهج السهل فإني أخاف أن يصب عليكم * عذاب فتدعوا بالندامة والثكل قال: فأجابه أبو جهل بن هشام - لعنه الله - فقال: عجبت لأسباب الحنيظة والجهل * وللشاغبين بالخلاف وبالبطل وللتاركين ما وجدنا جدودنا * عليه ذوي الأحساب والسؤدد الجزل ثم ذكر تمامها. قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هاتين القصيدتين لحمزة رضي الله عنه ولأبي جهل - لعنه الله -. قال ابن إسحاق: ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول - يعني: من السنة الثانية - يريد قريشاً. قال ابن هشام: واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون. وقال الواقدي: استخلف عليها سعد بن معاذ. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتي راكب، وكان لواؤه مع سعد بن أبي وقاص وكان مقصده أن يعترض لعير قريش وكان فيه أمية بن خلف ومائة رجل وألفان وخمسمائة بعير. قال ابن إسحاق: حتى بلغ بواط من ناحية رضوى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى. (ج/ص: 3/302) قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد. قال الواقدي: وكان لواؤه مع حمزة بن عبد المطلب. قال: وخرج عليه السلام يتعرض لعيرات قريش ذاهبة إلى الشام. قال ابن إسحاق: فسلك على نقب بني دينار، ثم على فيناء الخيار، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر يقال لها: ذات الساق فصلى عندها فثم مسجده، فصنع له عندها طعام فأكل منه وأكل الناس معه، فرسوم أثافي البرمة معلوم هناك، واستسقى له من ماء يقال له: المشيرب. ثم ارتحل فنزك الخلائق بيسار وسلك شعبة عبد الله، ثم صب للشاد حتى هبط ملل، فنزل بمجتمعه ومجتمع الضبوعة، ثم سلك فرش ملل حتى لقي الطريق بصخيرات اليمام، ثم اعتدل به الطريق حتى نزل العشيرة من بطن ينبع فأقام بها جمادى الأولى وليال من جمادى الآخرة ووادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً. وقد قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا وهب، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق. قال: كنت إلى جنب زيد بن أرقم فقيل له: كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة؟ قال: تسع عشرة. قلت: كم غزوة أنت معه؟ قال: سبع عشرة غزوة، قلت: فأيهن كان أول؟ قال: العشير - أو العسير - فذكرت لقتادة فقال: العشير. وهذا الحديث ظاهر في أن أول الغزوات العشيرة، ويقال: بالسين وبهما مع حذف التاء، وبهما مع المد اللهم إلا أن يكون المراد غزاة شهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن أرقم العشيرة وحينئذً لا ينفي أن يكون قبلها غيرها لم يشهدها زيد بن أرقم وبهذا يحصل الجمع بين ما ذكره محمد بن إسحاق وبين هذا الحديث والله أعلم. قال محمد بن إسحاق: ويومئذٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي ما قال. فحدثني يزيد بن محمد بن خيثم، عن محمد بن كعب القرظي، حدثني أبو يزيد محمد بن خيثم، عن عمار بن ياسر. قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع، فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بها شهراً فصالح بها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة فوادعهم. (ج/ص: 3/303) فقال لي علي بن أبي طالب: هل لك يا أبا اليقظان أن نأتي هؤلاء النفر - من بني مدلج يعملون في عين لهم - ننظر كيف يعملون؟ فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة فغشينا النوم فعمدنا إلى صور من النخل في دقعاء من الأرض فنمنا فيه. فوالله ما أهبنا إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحركنا بقدمه فجلسنا وقد تتربنا من تلك الدقعاء فيومئذٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ((يا أبا تراب)) لما عليه من التراب فأخبرناه بما كان من أمرنا فقال: ((ألا أخبركم بأشقى الناس رجلين ؟)) قلنا: بلى يا رسول الله. فقال: ((أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضر بك يا علي على هذه - ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسه - حتى تبل منها هذه - ووضع يده على لحيته -)). وهذا حديث غريب من هذا الوجه له شاهد من وجه آخر في تسمية علي أبا تراب كما في (صحيح البخاري): أن علياً خرج مغاضباً فاطمة، فجاء المسجد فنام فيه فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عنه فقالت: خرج مغاضباً فجاء إلى المسجد فأيقظه وجعل يمسح التراب عنه ويقول: ((قم أبا تراب قم أبا تراب)). قال ابن إسحاق: ثم لم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من العشيرة إلا ليال قلائل لا تبلغ العشرة، حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى بلغ وادياً يقال له: سفوان من ناحية بدر، وهي غزوة بدر الأولى، وفاته كرز فلم يدركه. وقال الواقدي: وكان لواؤه مع علي بن أبي طالب. قال ابن هشام والواقدي: وكان قد استخلف على المدينة زيد بن حارثة. قال ابن إسحاق: فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام جمادى ورجباً وشعبان وقد كان بعث بين يدي ذلك سعداً في ثمانية رهط من المهاجرين، فخرج حتى بلغ الخرار من أرض الحجاز. قال ابن هشام: ذكر بعض أهل العلم أن بعث سعد هذا كان بعد حمزة، ثم رجع ولم يلق كيداً. (ج/ص: 3/304) هكذا ذكره ابن إسحاق مختصراً وقد تقدم ذكر الواقدي لهذه البعوث الثلاثة، أعني بعث حمزة في رمضان، وبعث عبيدة في شوال، وبعث سعد في ذي القعدة كلها في السنة الأولى. وقد قال الإمام أحمد: حدثني عبد المتعال بن عبد الوهاب، حدثني يحيى بن سعيد. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: وحدثني سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي، حدثنا أبي، ثنا المجالد، عن زياد بن علاقة، عن سعد بن أبي وقاص. قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاءته جهينة فقالوا: إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق حتى نأتيك وقومنا، فأوثق لهم فأسلموا قال: فبعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب ولا نكون مائة وأمرنا أن نغير على حي من بني كنانة إلى جنب جهينة فأغرنا عليهم وكانوا كثيراً فلجأنا إلى جهينة فمنعونا وقالوا: لم تقاتلون في الشهر الحرام؟ فقال بعضنا لبعض: ما ترون؟ فقال بعضنا: نأتي نبي الله فنخبره، وقال قوم: لا بل نقيم ههنا، وقلت أنا في أناس معي: لا بل نأتي عير قريش فنقتطعها. وكان الفيء إذ ذاك من أخذ شيئاً فهو له، فانطلقنا إلى العير وانطلق أصحابنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر فقام غضبان محمر الوجه. فقال: ((أذهبتم من عندي جميعاً ورجعتم متفرقين إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة، لأبعثن عليكم رجلاً ليس بخيركم أصبركم على الجوع والعطش)). فبعث علينا عبد الله بن جحش الأسدي فكان أول أمير في الإسلام. وقد رواه البيهقي في (الدلائل) من حديث يحيى بن أبي زائدة عن مجالد به نحوه وزاد بعد قولهم لأصحابه: لم تقاتلون في الشهر الحرام؟ فقالوا: نقاتل في الشهر الحرام من أخرجنا من البلد الحرام. ثم رواه من حديث أبي أسامة عن مجالد، عن زياد بن علاقة، عن قطبة بن مالك، عن سعد بن أبي وقاص فذكر نحوه. فأدخل بين سعد وزياد قطبة بن مالك وهذا أنسب والله أعلم. وهذا الحديث يقتضي أن أول السرايا: عبد الله بن جحش الأسدي وهو خلاف ما ذكره ابن إسحاق أن أول الرايات: عقدت لعبيدة بن الحارث بن المطلب، وللواقدي حديث زعم أن أول الرايات: عقدت لحمزة بن عبد المطلب والله أعلم. التي كان سببها لغزوة بدر العظمى وذلك يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير. (ج/ص: 3/305) قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله ابن جحش بن رئاب الأسدي في رجب مقفله من بدر الأولى وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، وهم: أبو حذيفة بن عتبة، وعكاشة بن محصن بن حرثان حليف بني أسد بن خزيمة، وعتبة بن غزوان حليف بني نوفل، وسعد بن أبي وقاص الزهري، وعامر بن ربيعة الوائلي حليف بني عدي، وواقد بن عبد الله ابن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع التميمي حليف بني عدي أيضاً، وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف بني عدي أيضاً، وسهل بن بيضاء الفهري، فهؤلاء سبعة ثامنهم: أميرهم عبد الله بن جحش رضي الله عنه. وقال يونس: عن ابن إسحاق: كانوا ثمانية وأميرهم التاسع فالله أعلم. قال ابن إسحاق: وكتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحداً. فلما سار بهم يومين فتح الكتاب فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم، فلما نظر في الكتاب قال: سمعاً وطاعة وأخبر أصحابه بما في الكتاب. وقال: قد نهاني أن أستكره أحداً منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف منهم أحد. وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن، فوق الفرع يقال له: بحران، أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل نخلة، فمرت عير لقريش فيها عمرو بن الحضرمي. قال ابن هشام: واسم الحضرمي عبد الله بن عباد أحد الصدف وعثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي وأخوه نوفل والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة، فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريباً منهم فأشرف لهم عكاشة بن محصن وكان قد حلق رأسه. فلما رأوه أمنوا، وقال عمار: لا بأس عليكم منهم، وتشاور الصحابة فيهم وذلك في آخر يوم من رجب، فقالوا: والله لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام فتردد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم. فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ج/ص: 3/306) وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما غنمتا الخمس فعزله، وقسم الباقي بين أصحابه وذلك قبل أن ينزل الخمس. قال: لما نزلنا الخمس نزل كما قسمه عبد الله بن جحش كما قاله ابن إسحاق، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام)) فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال، فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان، وقالت يهود: تفائل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو ابن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله وقدت الحرب، فجعل الله ذلك عليهم لا لهم. فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: أي: إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم والفتنة أكبر من القتل، أي: قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل، ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين، ولهذا قال الله تعالى: قال ابن إسحاق: فلما نزل القرآن بهذا الأمر، وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وبعثت قريش في فداء عثمان والحكم بن كيسان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا)) - يعني: سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان - فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم. فقدم سعد وعتبة فافداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيداً، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافراً. قال ابن إسحاق: فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن، طمعوا في الأجر، فقالوا يا رسول الله: أنطمع أن تكون لنا غزاة نعطى فيها أجر المجاهدين ؟ فأنزل الله فيهم: قال ابن إسحاق: والحديث في ذلك عن الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير. وهكذا ذكر موسى بن عقبة في (مغازيه) عن الزهري وكذا روى شعيب عن الزهري عن عروة نحواً من هذا وفيه: وكان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين والمشركين. وقال عبد الملك بن هشام: هو أول قتيل قتله المسلمون، وهذه أول غنيمة غنمها المسلمون، وعثمان والحكم بن كيسان أول من أسره المسلمون. قلت: وقد تقدم فيما رواه الإمام أحمد: عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: فكان عبد الله بن جحش أول أمير في الإسلام. وقد ذكرنا في التفسير لما أورده ابن إسحاق شواهد مسندة فمن ذلك ما رواه الحافظ أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، حدثني الحضرمي، عن أبي السوار، عن جندب بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رهطاً وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح، أو عبيدة بن الحارث، فلما ذهب بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس، فبعث عليهم مكانه عبد الله بن جحش وكتب له كتاباً وأمره أن لا يقرأه حتى يبلغ مكان كذا وكذا. وقال: ((لا تكرهن أحداً على المسير معك من أصحابك)) فلما قرأ الكتاب استرجع وقال سمعاً وطاعة لله ولرسوله، فخبرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب فرجع منهم رجلان وبقي بقيتهم فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو جمادى، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله: وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في (تفسيره): عن أبي مالك، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، عن جماعة من الصحابة فذكر قتل واقد لعمرو بن الحضرمي ورجعوا بالغنيمة والأسيرين فكانت أول غنيمة غنمها المسلمون. وقال المشركون: إن محمداً يزعم أنه يتبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام وقتل صاحبنا في رجب. وقال المسلمون: إنما قتلناه في جمادى. (ج/ص: 3/308) قال السدي: وكان قتلهم له أول ليلة من رجب وآخر ليلة من جمادى الآخرة. قلت: لعل جمادى كان ناقصاً فاعتقدوا بقاء الشهر ليلة الثلاثين، وقد كان الهلال رؤي تلك الليلة فالله أعلم. وهكذا روى العوفي عن ابن عباس أن ذلك كان في آخر ليلة من جمادى، وكانت أول ليلة من رجب، ولم يشعروا وكذا تقدم في حديث جندب الذي رواه ابن أبى حاتم. وقد تقدم في سياق ابن إسحاق أن ذلك كان في آخر ليلة من رجب وخافوا إن لم يتداركوا هذه الغنيمة وينتهزوا هذه الفرصة دخل أولئك في الحرم فيتعذر عليهم ذلك فأقدموا عليهم عالمين بذلك وكذا قال الزهري عن عروة رواه البيهقي فالله أعلم أي ذلك كان. قال الزهري عن عروة فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقل ابن الحضرمي وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه حتى أنزل الله براءة رواه البيهقي. قال ابن إسحاق: فقال أبو بكر الصديق في غزوة عبد الله بن جحش جواباً للمشركين فيما قالوا من إحلال الشهر الحرام. قال ابن هشام: هي لعبد الله بن جحش: تعدون قتلاً في الحرام عظيمة * وأعظم منه لو يرى الرشد راشد صدودكم عما يقول محمد * وكفر به والله راء وشاهد وإخراجكم من مسجد الله أهله * لئلا يرى لله في البيت ساجد فإنا وإن عيرتمونا بقتله * وأرجف بالإسلام باغ وحاسد سقينا من ابن الحضرمي رماحنا * بنخلة لما أوقد الحرب واقد دماً وابن عبد الله عثمان بيننا * ينازعه غلّ من القيد عاند
|